في أوائل فبراير الجاري، انتشرت عبر المواقع الإلكترونية الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، خريطة منسوبة للاستخبارات الأمريكية، تحمل اسم «تركيا 2050»، تظهر تمدد النفوذ التركي باللون الأحمر فوق كتلة ترابية شاسعة جدا، تضم معظم بلدان الشرق الأوسط الناطقة بالعربية، وجنوب بلغاريا واليونان وقبرص وشبه جزيرة القرم، إضافة إلى أرمينيا وأذربيجان وكل من تركمانستان وكازاخستان.
تتبع الموقع الإخباري السوري المستقل «عنب بلدي» أصل تلك الخريطة في تقرير نشره يوم 13 فبراير، أكد فيه أن «تركيا 2050» كانت جزءًا من دراسة قديمة للكاتب الأمريكي جورج فريدمان، تحت عنوان «المائة عام المقبلة: توقعات للقرن الـ21»، نشرها في عام 2009 بمعهد «ستراتفور» للدراسات الاستراتيجية، الذي يقال بتبعيته في الباطن لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، إلى حد تلقيبه إعلاميًا في الولايات المتحدة بـ«وكالة المخابرات المركزية في الظل»، وهو ما يعني أن الخريطة كانت مجرد تحليل شخصي لفريدمان، ولا تنسب رسميًا إلى الاستخبارات الأمريكية. كما أن إحياء تلك الخريطة لم يتم من قبل الدوائر الرسمية في تركيا، وإنما من قبل الإعلام الخاص التركي، مع الإشارة إلى أن قناة «TGRT haber»، التي أذاعت الخريطة لأول مرة، هي أحد الأذرع الإعلامية الداعمة لنظام الرئيس رجب طيب أردوغان.
رغم ذلك، أثارت خريطة «تركيا 2050» الكثير من الغبار فور ظهورها. في الشرق الأوسط أولًا، حيث يمارس نظام أردوغان فعلًا نفوذًا سياسيًا وعسكريًا واسعًا منذ عام 2011، خصوصًا في الشمالين السوري والعراقي، إضافة إلى ليبيا وتونس. ثم في أوساط النخب السياسية في روسيا ثانيًا، حيث ابتلعت الخريطة المنشورة لصالح تركيا شبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو في عام 2014، وجنوب القوقاز (أرمينيا وأذربيجان) التي تعتبر حقولًا طبيعية للاهتمامات الجيوسياسية الروسية، وأخيرًا الجمهوريات التركية الخاضعة في السابق للاتحاد السوفيتي، تركمانستان وكازاخستان.
وفي مقابل تفسير وسائل الإعلام العربية للخريطة المشار إليها، باعتبارها تأكيدًا على رغبة تركيا خلال السنوات الأخيرة، في إحياء الإمبراطورية العثمانية بمناطق نفوذها القديمة في العالم العربي والبلقان وشرق البحر المتوسط، فإن وسائل الإعلام الروسية اعتبرت الطموح التركي لممارسة السيادة فوق القرم وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، إحياءً للنظرية القومية التركية القديمة، المسماة بـ«طوران الكبرى»، التي تسعى لتوحيد كل الشعوب الناطقة بالتركية في إمبراطورية واحدة، تمتد من الأناضول غربًا، إلى الموطن الأصلي لكل الشعوب التركية في المناطق الاستبسية بأواسط آسيا، والمعروفة باسم أرض «طوران».
يعتني التقرير التالي بتاريخ «طوران الكبرى»، كما يهتم برصد أهم ردود الفعل الروسية عليها منذ ظهور خريطة «تركيا 2050»…
طوران والطورانية
ظهرت نظرية طوران الكبرى لأول مرة في أواخر القرن الـ19 الميلادي، على أيدي المنظرين لجمعية «الشبان الأتراك»، وهي جمعية ثورية، استهدفت فور نشأتها الإطاحة بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني من العرش، وإعادة الحياتين النيابية والدستورية إلى تركيا من جديد. ورغم أنها قبلت في البداية بالمساواة بين كل شعوب الإمبراطورية العثمانية، لضمان حشد النخب من تلك العناصر إلى قضيتهم الأساسية، وهي عزل عبد الحميد، فإن انتصار الجمعية أخيرًا في انقلاب إسطنبول عام 1908، وإطاحتهم أخيرًا بعيد الحميد الثاني في العام التالي، كان إيذانًا بتحول شامل في العقيدة السياسية للشبان الأتراك، حيث بدأ قادة الجمعية، التي أصبحت تعرف باسم «الاتحاد والترقي»، بتطبيق ما سموه مبدأ «الطورانية»، الذي قال بالتفوق البيولوجي للعرق التركي على سائر الأعراق البشرية، ونادى باستبدال الإمبراطورية العثمانية، التي آمنت بالتعدد العرقي والديني، بأخرى تركية، فوق الحدود العثمانية القديمة، إضافة إلى حدود «طوران الكبرى» سالفة الذكر، يقودها الأتراك وحدهم، مع خضوع كافة الشعوب غير التركية لهم.
على أساس الطورانية وفكرة طوران الكبرى، خاض الاتحاديون في إسطنبول الحرب العالمية الأولى (1914- 1918). وبينما استخدموا الدعايات الدينية في الشرق الأوسط لحشد المسلمين ضد بريطانيا وفرنسا، كانت الدعايات القومية بين الشعوب التركية في القرم وجنوب القوقاز هي الأساس في حرب قادة إسطنبول ضد روسيا القيصرية. وقد فشلت تركيا على أي حال فوق الجبهتين، ونالت هزيمة عسكرية فرضت على الأتراك التوقيع على معاهدة لوزان 1923، وقبول الحدود الجغرافية للجمهورية التركية الحالية.
وعلى الرغم من تحول القومية التركية (الطورانية) إلى عقيدة آمنت بها النخب السياسية في العاصمة الجديدة أنقرة معظم فترات القرن العشرين، فإن مبدأ «طوران الكبرى» فرض عليه التجميد نتيجة سقوط الشعوب التركية في القرم والقوقاز وآسيا الوسطى تحت وطأة الاحتلال الثقيل للاتحاد السوفيتي. ولن يعود الحديث عن الطورانية من جديد في تركيا، إلا بعد نهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، وانفتاح المجال أخيرًا أمام أنقرة كي تمارس نفوذها داخل مناطق انتشار الشعوب الناطقة بالتركية، سواء بالمساعدات الإنسانية، والدعم العسكري، أو بدمج الأجيال الصاعدة في الجمهوريات التركية في المنظومة التعليمية والثقافية بتركيا، أو أخيرًا بالاستثمارات المباشرة.
ومع أن وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم في أنقرة عام 2003 كان من المفترض أن ينتج انخفاضًا في اهتمامات تركيا بـ«طوران الكبرى»، خاصة مع مناداة «العثمانية الجديدة»، أيديولوجية أردوغان الأثيرة، بضرورة تحويل البلاد اهتماماتها الجيوسياسية إلى مناطق النفوذ العثماني القديم في البلقان والشرق الأوسط، فإن العقدين الأخيرين، واللذين قبض فيهما أردوغان على السلطة، أثبتا أن الاهتمام بالمناطق العثمانية القديمة لم يؤثر كثيرًا على توسع النفوذ التركي شرقًا تجاه المناطق الناطقة بالتركية، بل ربما زادت حتى بعزيمة أشد. حتى أن قمة الذكرى السنوية السابعة لمجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية التي عقدت في نهاية عام 2019 في العاصمة الأذربيجانية باكو، التي شارك فيها رؤساء أذربيجان وتركيا وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، شهدت اقتراح الرئيس الكازاخستاني نزارباييف بالتخلي عن مصطلح «الناطقين بالتركية» وتحويله إلى «منظمة الدول التركية»، كما أشار خلالها رجب طيب أردوغان إلى حلمه بقيام «ست دول وأمة واحدة»، وكان يعني انخراط تركيا وكافة الجمهوريات الناطقة التركية الخمس في اتحاد سياسي كبير.
رد الفعل الروسي
كان من المتوقع أن يتسم رد الفعل الروسي على خريطة «تركيا 2050» بالعنف ما دامت تلك الأخيرة تقتطع من روسيا أملاكًا، أو تحرمها من مناطق واسعة لممارسة النفوذ. وبطبيعة الحال، اختلف رد الفعل ذاك من الدوائر الرسمية إلى غير الرسمية في موسكو. ففي الأولى، استبعد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف سعي تركيا إلى إحياء طوران الكبرى من الأساس، مذكراً بالكيانات التي أسستها أنقرة فعلًا بين ظهراني الجمهوريات التركية، بغية تحقيق التأثير الدائم فيها، وأهمها، «مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية»، و«المنظمة الدولية للثقافة التركية – توركسوي»، وأخيرًا الجمعية البرلمانية للدول الناطقة بالتركية. وإنشاء تلك المؤسسات كلها، وعملها منذ زمن طويل، وتحت مراقبة روسيا نفسها في بعض الحالات، كفيل بالنسبة للافروف، لإثبات رغبة تركيا في الإبقاء على اهتماماتها في القرم وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، داخل القوالب الدبلوماسية والثقافية والتنموية الناعمة. وقد أثر عن لافروف في هذا السياق حديثه السابق عن رغبة روسيا في الانضمام إلى مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية. وهو الانضمام الذي يعني رغبة موسكو في احتواء هذا التحالف التركي قبل أن يتحول خطرًا عليها.
لكن الأمر اختلف كثيرًا على المستوى غير الرسمي في روسيا. فقد ترجم موقع «روسيا اليوم» الإخباري في 13 نوفمبر من العام 2020، مقالًا كتبه المحلل الروسي رسلان تيميربولاتوف تحت عنوان «جيش طوران مجرد ستارة للعبة كبيرة في القوقاز»، للتعليق على حرب ناغورني كاراباخ الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان. وفيه، ينفي تيميربولاتوف انطلاق تركيا في دعمها لباكو من رغبة ذاتية حقيقية، مؤكدًا أن الأمر برمته لا يعدو عن كونه تنفيذاً من قبل الرئيس التركي أردوغان، لأجندة وضعها رئيس الاستخبارات البريطانية (MI6) ريتشارد مور، الذي عمل سابقًا سفيرًا لبريطانيا في تركيا، بهدف إقصاء روسيا من منطقة جنوب القوقاز الغنية بالنفط، والمتحكمة في تدفقات الطاقة إلى أوروبا الصناعية، وإحلال بلاده محلها (بعد اتجاه شركات النفط والغاز الأمريكية إلى بيع أصولها في أذربيجان، تعتبر العملاق البريطاني «بريتيش بتروليوم» اللاعب الغربي الوحيد في سوق الطاقة بباكو)، عبر تهييج العنصر القومي التركي ضد النفوذ الروسي، وهي المهمة التي يتكفل بها أردوغان، من خلال الضغط على ثيمات القومية التركية، والدعوة إلى إنشاء «جيش طوران العظيم»، الذي يضم مقاتلين من كل الجمهوريات الناطقة بالتركية. والمقال يعتبر خطة «مور- أردوغان»، إحياء للتعاون البريطاني – العثماني القديم ضد النفوذ الروسي في مناطق القوقاز والقرم في القرن الـ19، الذي استخدم فيه جواسيس الإنجليز أيضًا القومية التركية نفسها ضد القياصرة الروس.
أيًا ما كان موقع تلك المؤامرة التركية – البريطانية من الحقيقة، فلا شك أن النظام السياسي الحالي في أنقرة يتخذ من فكرة «طوران الكبرى» ملهمًا له في سياساته الخارجية تجاه المناطق الناطقة بالتركية، ليس من خلال التطبيق الحرفي للفكرة، أي بالتوسع العسكري، والوصول إلى خريطة تركيا 2050 التي رسمها جورج فريدمان في العام 2009، نظرًا لاستحالتها، وإنما بوسائل أقل خشونة، على شاكلة التعاون الاقتصادي والثقافي، أو في بعض الأوقات بالدعم العسكري الفعال، مثلما حدث في ناغورني كاراباخ مؤخرًا. والفوائد التي تجنيها أنقرة من «طوران الكبرى» في ثوبها المعدل ذاك كثيرة، فمن جهة تضمن لتركيا عمقًا جيو سياسيًا هائلًا يضمن تصريف صناعاتها المختلفة، خصوصًا في المجال الدفاعي، ويخفف من اعتمادها على واردات الطاقة الروسية حصرًا. ومن جهة أخرى، توفر لأنقرة فرصًا ممتازة للضغط على موسكو في القرم وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى، كي تخفف من وطأة الضغوطات الروسية عليها في مناطق النزاع بينهما في الشرق الأوسط، خصوصا الشمال السوري وليبيا.
وقالت وكالة «سبوتنيك» الروسية إن النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما ألكسندر شيرين، دعا حكومة بلاده للنظر إلى الأمر بموقف جدي. قائلًا: «تركيا، بعد عملية ناجحة في قره باغ، آمنت تمامًا بقوتها، وبالتالي فهي تشير رسميًا إلى أين ستذهب بعد ذلك».
في حين أشار النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما، أندريه كراسوف، إلى أن القيادة التركية لديها أفكار حول إعادة بناء الإمبراطورية العثمانية، في حين شكك في أن أنقرة تريد ضم الأراضي الروسية بالقوة.
وقال رئيس البحث العلمي في معهد «حوار الحضارات» المستشرق أليكسي مالاشينكو، على الهواء في شبكة «NSN»، إن أنقرة تحاول إبراز الماضي الإمبراطوري للبلاد على تركيا الحالية.
وأوضح: «عندما ينظرون إلى شبه جزيرة القرم وأوروبا والشرق الأوسط، يتذكرون أنها كانت دولة واحدة في يوم من الأيام»، مؤكدًا على أن عرض الخريطة هو جزء من الدعاية، وليس لتركيا تأثير كبير على روسيا، وليس متوقعًا ذلك في المستقبل.
الرياض: «تركيا الآن»
هاجم رئيس مجلس الغرف السعودية، عجلان العجلان، ما قال إنها «خريطة افتراضية لنفوذ تركيا»، نشرتها إحدى القنوات التركية، تظهر ضم السعودية ومصر والخليج لتركيا بعد 3 عقود.
وقال رجل الأعمال السعودي في تغريدة على «تويتر»، «عرضت قناة (TGRT) التركية خريطة لمناطق النفوذ التركي بحلول عام 2050، وتشمل سوريا والعراق والأردن ومصر وليبيا والسعودية ودول الخليج».
وأضاف في تغريدته: «هذا يؤكد جنون الحكومة التركية وأطماعها وعدوانيتها، التي سنكون لها بالمرصاد بكل ما نملك، ولهذا نحن مستمرون بمقاطعة تركيا، وإلى صفر تعامل مع تركيا».
ونسبت القناة الخريطة الافتراضية إلى مركز أبحاث ستراتفور الأمريكي، وعنونت تقريرها حول النفوذ التركي بـ«خريطة ظل الاستخبارات المركزية الأمريكية عن تركيا في 2050»، وفقًا لوكالة «سبوتنيك» الروسية.
وأظهرت الخريطة امتداد نفوذ أنقرة بحلول عام 2050 من كازاخستان وتركمانستان شرقًا مرورًا بالسعودية ومصر وحتى ليبيا غربًا.